وهم الجماعة أم الجماعة الحقيقية- نظرة جديدة

المؤلف: سامي الدجوي10.23.2025
وهم الجماعة أم الجماعة الحقيقية- نظرة جديدة

في ردهات أحد المتاجر الكبرى، اصطف خمسة أفراد، صمت مطبق يخيم على المكان، لا يكسره سوى نظرات خاطفة متبادلة، بينما ينتظر كل منهم دوره لتسديد قيمة مشترياته. ربما يتبادر إلى ذهنك عزيزي القارئ أن هذا المشهد اعتيادي وروتيني. ولكن، ماذا لو علمنا أن هؤلاء الخمسة هم أعضاء في مجلس إدارة إحدى المؤسسات المرموقة؟ فجأة، يتغير المنظور بشكل جذري، وتطفو على السطح ديناميكيات بشرية معقدة، وتتشابك العلاقات الإنسانية المتداخلة. على الرغم من التشابه الظاهري بين هؤلاء الأفراد الواقفين جنبًا إلى جنب في الطابور، وتلك المجموعة المتراصة في اجتماع مجلس الإدارة، إلا أن الفروقات الجوهرية بينهما عميقة وشاسعة. لذا، دعونا نعيد النظر مليًا في مفهوم الجماعة من منظور أكثر عمقًا، بغية فهمه بشكل علمي وعملي سليم. تُعرّف أمهات كتب علم الإدارة "الجماعة" بأنها: تجمع واعٍ ومنظم لشخصين أو أكثر، يتبادلون التفاعل والتأثير المتبادل، ويتشاركون في أهداف واضحة المعالم، ويتمتعون بهيكل تنظيمي محدد المعالم، ويعتبرون أنفسهم جزءًا لا يتجزأ من كيان واحد متكامل. انطلاقًا من هذا التعريف الشامل، يمكننا استكشاف الجماعة من زاوية مختلفة، واستخلاص خصائصها المميزة، والتي تتجلى في الآتي: 1. الحد الأدنى لتشكيل الجماعة هو وجود شخصين (على سبيل المثال: شريكا عمل متناغمين، أو زوجان متحابان). 2. يجب أن يسود بين أعضاء الجماعة تفاعل اجتماعي حيوي، سواء كان ذلك من خلال تبادل الكلمات الهادفة (مثل: مناقشة الأهداف الطموحة) أو عن طريق الإيماءات المعبرة (مثل: تبادل الابتسامات الودية)، هذا التفاعل يترك بصماته على الأعضاء، ويحفزهم على التأثير الإيجابي في الآخرين؛ كما يجب أن يسود بينهم ترابط وثيق، أي تكاتف جهودهم الخالصة لتحقيق الأهداف المشتركة المنشودة. 3. يسعى أعضاء الجماعة جاهدين لتحقيق أهداف محددة بدقة، أو تحقيق مصالح مشتركة تجمعهم، أو تحقيق طموحات موحدة سامية، ويعملون بتنسيق متكامل وتناغم تام لتحقيقها على أرض الواقع. 4. يجب أن تتمتع الجماعة باستقرار نسبي راسخ، من خلال هيكل تنظيمي واضح المعالم، وعلاقات شفافة ووطيدة تربط بين أعضائها، بحيث يدرك كل عضو في الجماعة مكانته المتميزة ودوره المحوري وعلاقته الوثيقة بالآخرين، فلا تتبدل أدوار الأعضاء بشكل عشوائي ومتكرر، ولا يتغير الأعضاء أنفسهم بصورة مستمرة. 5. يجب أن ينظر أعضاء الجماعة إلى أنفسهم بفخر واعتزاز باعتبارهم جزءًا أصيلًا من كيان كبير مترابط (أي المنظمة)، ويميزون أنفسهم بوضوح عن الآخرين. ربما بات مفهوم الجماعة الآن جليًا وواضحًا في ذهنك، دعونا نتأمل مليًا في تلك الخصائص الجوهرية، ونطرح على أنفسنا هذا السؤال الملح: هل أنت بالفعل جزء من جماعة حقيقية وفاعلة، أم أنك تعيش في «وهم الجماعة» الزائف، كحال «طابور الدفع» الصامت؟ يؤكد علماء الإدارة والمفكرون الاقتصاديون ورجال الأعمال الممارسون على أنه ليس كل تجمع لعدد قليل أو كثير من الأفراد يرتقي إلى مصاف الجماعة الحقيقية، بل إن من أهم وأصعب الخصائص التي يجب أن تتوافر في الجماعة لكي تبلغ ذروة فاعليتها هي: توحيد الأهداف التي يسعون بدأب لتحقيقها، والتفاعل الاجتماعي البنّاء بين الأعضاء، والإدراك الذاتي العميق للانتماء إلى الجماعة؛ ومن أبرز الأمثلة الواقعية التي من المفترض أن تجسد هذه الخصائص الهامة على أرض الواقع، هي: مجالس الإدارة الرشيدة، والفرق الرياضية المتناغمة، والأعمال التطوعية النبيلة. فإذا كان هناك تباين واختلاف جوهري في تحديد أهداف المنظمة بين أعضاء مجلس إدارة مؤسسة ما، كأن يفضل البعض مصلحة المنظمة والجماعة على مصلحته الشخصية الأنانية أو مصلحة الفرد الضيقة، بينما ينتهج البعض الآخر سلوكًا معاكسًا تمامًا، فإن هذا التضارب والتشتت يؤدي حتمًا إلى وجود «وهم الجماعة» المخادع، ويُصبح مجلس الإدارة مجرد شكل فارغ من المضمون، ودوره باهتًا قليل الفاعلية. إجمالًا وتلخيصًا لما سبق، فإن الجماعة ليست مجرد حشد من الأفراد، بل هي كيان حيوي نابض بالحياة، يتفاعل أعضاؤه بأسلوب مؤثر ومترابط، وتجمعهم أهداف مشتركة نبيلة، ويشكلون هوية جماعية فريدة من نوعها، تُعزز لديهم الشعور العميق بالانتماء والولاء. ومن بين أكثر خصائص الجماعة صعوبة في تحقيقها على الوجه الأمثل: توحيد الأهداف السامية، والتفاعل الاجتماعي الإيجابي، وترسيخ الانتماء الصادق للجماعة. أخيرًا، فلنبدأ على الفور في إعادة تقييم مفهوم بناء الجماعات، واضعين نصب أعيننا تلك الخصائص الجوهرية، لتحقيق الاستفادة القصوى من الدور الحقيقي للجماعة. فتحقيق رؤية المملكة الطموحة 2030 يمر حتمًا من خلال تشكيل جماعات عمل حقيقية وفاعلة، تدرك أهدافها المحددة بدقة، وتستشعر مسؤولياتها المشتركة على أكمل وجه. فلنعمل جاهدين في مؤسساتنا على بناء جماعات فعّالة ومثمرة، تُحقق للمنظمة أهدافها المنشودة، وتكوّن نموذجًا عالميًا يحتذى به في تشكيل الجماعات، تقتدي به المؤسسات في مختلف دول العالم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة